الملائكة تموت أيضا

0
901

الملائكة تموت أيضا (2) …
اسمي جمال بن إسماعيل، أصدقائي الأقرب ينادونني “جيمي”. جسدي هش لكنه مقاوم، ولا يستسلم بسهولة.
لست غنيا إلا بما أقوم به تجاه الناس المحتاجين إليّ. لهذا اخترت العمل التطوعي في النهاية نحن نعيش بالكفاف وسعداء. أمي كانت خائفة عليّ من هذه السفرة. قلب الأم تخبره الملائكة. قبّلت رأسها واقنعتها أنها ليست المرة الأولى. أنا ذاهب نحو إخوة ينتظرونني هناك. لقد جمعت قدرا من المال من أصدقائي وأقربائي، وناس الخير، ولا بد أن أوصله إلى من ينتظرونني في منطقة الأربعاء ناث ثيراثن. يجب أن يصل المبلغ مقفلا لا ينقص منه مليم واحد، لهذا قمت على السادسة صباحا. كان هواء مليانة وجبال زكار الشامخة ناعما.

القصة وما فيها تشبه التراجيدية اليونانية.
فقد ضبطني بعض السكان والشرطة وأنا أتسلل بين الأشجار الملتهبة باتجاه الصوت النسوي الذي كلما اقتربت منه، سمعته أكثر. كان يطلب النجدة. كنت أحاول أن أخاتل النار لأصل إلى من كان ينادي وفمه ممتلئ بالرماد والدخان. فجأة قبضت عليَّ من ظهري، يد خشنة ثم صارت أياد، اقتادتني نحو الفرغونيت سيارة الشرطة، ورميت في بوكس السجناء، وأغلق علي بالمفاتيح الخشنة. لم اسمع إلا صريرها ليبدأ البياض.
والسيارة تهتز كانت تنتابني بعض الضحكات الخاطفة. مساكين هؤلاء الشرطة، سيضطرون إلى الاعتذار، عندما أظهر لهم أوراقي الثبوتية، وسيشهد لصالحي، أصدقائي الذين كانوا معي في الغابة وتراجعوا من شدة الحرارة.
سيعتذرون وسأغفر لهم خطأهم الفادح. ويتحول إلقاء القبض عليّ متلبسا إلى نكتة، سنقصها للأصدقاء: عاشق للطبيعة رسما وغناء يحرق غابات تيزي وبجاية. عنوان جميل للجرائد.
كانت هزات الطريق ثقيلة، كان رأسي يصطدم من حين لآخر بسقف بوكس سيارة الشرطة المتجهة نحو الكوميسارية. لم أفهم جيدا تلك الوضعية الغريبة؟ عندما وصلنا، كان سيل من البشر يتكاثرون بسرعة في ساحة الكوميسارية. كانوا يصرخون لكني كنت أعرف أنهم سيهدؤون بمجرد أن يسمعوني برفقة أصدقائي الذين لمحتُ بعضهم في الساحة مما أراحني. سيسكتون بحكمتهم هذه الأمواج البشرية التي كانت تصلني بعض صراخاتها غير واضحة، وبن أضطر إلى الشرح الطويل والدفاع عن نفسي.
حاول الشرطيان أن يبعدوا الحضور الذين كانوا يريدون اقتحام السيارة. بعض الحاضرين كانوا كبيري السن، يحاولون أن يفعلوا نفس الشيء.
بدأت السيارة تهتز بعنف كبير. ومع ذلك كنت على يقين من أنهم سيتوقفون بمجرد معرفة الحقيقة.
فجأة انتابني بعض الخوف. بعض أصدقائي كانوا يصرخون أيضا. الباقي احتلوا السيارة كلها. لكن الدخول إلى البوكس صعب. يوضع فيه عادة المجرمون المقبوض عليهم. القتلة الخطيرون. مستهلكو المخدرات. صعب اختراقه أو كسره.
هل يعقل أن تصبح مجرما وانت قد قطعت المسافات بالأتوستوب لتصل إلى أحبابك الذي جئت تقاسمهم الآلام. لم أخف من العدد، لكني خفت من عدم وصول صوتي إليهم وأن يمر كل شيء بسرعة.
لم يكن الحريق مخيفا بقدر حرائق الضغينة المتخفية تحت أثقال الخيبات والانكسارات والأوهام.
فجأة غاب الشرطيان أو الثلاثة. بحثت بعينين مهزومتين عمّن أعرفهم. لم أر إلا وجوها مفتوحة عن آخرها، بأنياب حادة وروائح كريهة. تكاثر الضرب على البوكس. كنت جالسا بهدوء، عاري الظهر بسبب الحرارة والنار. أغمضت عيني وحاولت أن أرى الشمس التي انحرفت عن مسارها قبل أن يغطيها الدخان نهائيا. زاد الدق العنيف على القطع الحديدية السميكة للبوكس. حاولت أن أقوم من مكاني، لكني لم أستطع. كم كنت وحيدا. تذكرت لوحتي التي لم أنته منها. أعرف أن الضرب المجنون على جسدي سيكون قاسيا لكني سأحاول أن أحفظ رأسي وأصابعي حتى لا يقع لي ما وقع لفكتور غارا الذي قص زبانية بينوشي أصابعه لكيلا يعزف على القيثارة. على كل ليسوا بهذا الجنون. حتى ولو كان الصارخون كثر، هناك حكماء رأيتهم يفرقون الناس قبل أن تخفيهم الموجة البشرية.
حتى تلك اللحظة لم أفقد الأمل. لقد رآني الكثيرون على قناة الأوراس التي لا أحبها، وأنا أتحدث عن الرحلة التي قمت بها للمشاركة في إطفاء النار.
اهتزت السيارة بعنف كأنه زلزال. لا أدري ماذا حدث لي؟ منذ تلك اللحظة لم أر بشرا ولكن ذئابا تصعد فوق بعضها البعض للوصول إليّ. سمعت كلاما غامضا يشبه الاتفاق على حرقي. زاد خوفي. تجمدت في مكاني. عندما حاولت أن أقوم قليلا، لم أستطع. فجأة فتح الباب بدون عنف وكأنهم تحصلوا على المفتاح؟ مع أن البوكس كان مغلقا. دخل شخصان بعيون فارغة ومظلمة. تمتمت:
– اسمع يا خويا أنا جيمي، فنان، من مليانة و… وضع ذراعه الثقيلة ورائي، ثم دفع بي هو وصديقه
إلى الأمام. أخرجني ثم أغلق باب البوكس ورائي. وجدتني واقفا أمام ذئب طويل. في يده قطعة حادة طويلة، حاولت أن أنبهه لما كان بصدد فعله، لكنه كان قد السكينة كلها في خصري الأيسر، حتى مست العظم. كانت الضربة مؤلمة ولم أتمالك من الصراخ. الثانية مرت كجرح صغير، الثالثة والرابعة التي كانت تأتي من كل الجهات، لم أعد أحس بها إلا قليلا كتمزقات متتالية في جسد ميت، ثم رموا بي لبقية الذئاب التي كانت ترقص رقصة الموت.
كان الضرب يأتي من كل الجهات.
انتهى كل شيء.
سحلني شايان في الطريق بشكل هستيري.
كنت بعيدا. أتاملهم من فوق وهم يضعون جسدا لم يكن لي، على الجمر والحطب، ويشعلون النار فيه ويكبون عليه المواد الحارقة، ربما هي نفسها التي أحرقوا بها الغابات.
كان الجسد يشعل ويتحول إلى وقود لشيء غامض.
انتابتني لحظتها، قصيدة مهذل الصقور، يؤديها شاب أحببته لأنه يشبهنا، دون أن أعرف اسمه؟

غمرتني موجة حزن قاسية. لم أكن أريد الشهادة في هذا العمر، كنت أريد فقط أن أستمر في الحياة من أجل أمي والصغار المشردين الذين كنت أعلمهم الكتابة والقراءة. إن أعود إلى لوحتي الربيعية التي تركتها معلقة ولم أنهها. قيثارتي التي ستصبح يتيمة بدوني.
كانوا ما يزالون ينكلون برماد الجسد، أغمضت عيني وتمتمت قبل أن أغيب في الأبدية
»اغْفِرْ لَهُمْ، يا إلهي، فهمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».

واسيني
14-08-2021

أترك تعليق